أن نملأ أكثر من مكاننا. أن نكون كرماء. ألّا نتعامل مع الناس كما يعاملوننا، أو كما يتوقّعون منّا، بل كما نحبّ أن يعاملونا.
الطريقة الوحيدة لتحسين العالَم هي أن نؤدّي في عملنا أكثر ممّا ينبغي، وأن نملأ فراغًا أكبر من المطلوب. أن نأخذ على عاتقنا مسؤوليّة أكبر من حدود الوظيفة. وألّا ننتظر شيئًا في مقابل ذلك.
لا أحد يعطي أحدًا مسؤوليّة. ربّما يعطيه بعض المهام لإنجازها. ولكن المسؤولية قرار ذاتيّ تمامًا. أودّ لو أقول أنّها تنتزع انتزاعًا، ولكنّها سهلة الأخذ؛ لا أحد ينافسك عليها. سيتنازل لك النّاس عن المسؤوليّة بكل سرور حين يكون هناك أزمة، ولكنّهم سيحاربوك لو حاولت أن تنسب لنفسك فضلًا حين تسير الأمور على ما يُرام.
كما يشير سيث جودن، لو تحمّلت المسؤولية، وتنازلت عن نسبة الفضل إلى نفسك، تنافس النّاسُ للعمل معك.
وهكذا نملأ أكثر من مكاننا في العمل، وفي البيت، وفي علاقاتنا الاجتماعية، وفي كلّ مكان. بتحمّل مسؤوليّة لم تطلب منّا، والزّهد في نسبة الفضل إلى أنفسنا.
مَن قام بالمهام المطلوبة منه فقط، اختفى وسط زحام من الآخرين الذين لا يفعلون سوى ما يطلب منهم. مَن قام بأكثر من المطلوب، ظهر عليهم جميعًا، ولو زهد في الفَضل، لظهر أكثر!
لم يكُن مطلوبًا من هنري فورد بناء المصانع، ولا كان مطلوبًا من كارل بنز أن يخترع سيّارة، ولا طلب أحدٌ من توماس إدِسُن اختراع المصباح الكهربائيّ .. ما طلب أحد من مارك زكربرج اختراع الفيسبوك، ولا طلب أحد منصّة نؤجّر منها غرف نوم عند غرباء في بلاد غريبة .. بل ربّما كانت كلّ هذه الابتكارات غير متصوّرة أصلًا.
إنّما ملأ هؤلاء أكثر من مكانهم، فنفعوا العالَم أجمع.
ما طلب أحد من النّادل أن يقدّم وصيّة صادقة بأنّ شوربة الدجاج ليست جيّدة اليوم، وينصح الزبون بتجنّبها وتناول شوربة العدس الطازجة بدلًا منها. ما كان مطلوبًا من السّائق أن يقدّم قطعةً من الحلوى لطفلة حتّى يهدأ بالُها وهي في رحلة طويلة في طريق مزدحم. ليس متوقّعًا من الموظّف أن يأتي عملَه مبكّرًا جدًا قبل الجميع، ليلصق قصاصات تشجيعيّة لزملائه، مخلصًا فيما يقول.
إنّما اختار هؤلاء أن يملأوا أكثر من مكانهم. فلمسوا قلوبًا يصعب أن تنسى لهم هذا الصّنيع. وربّما قلّدهم من رآهم، فتعاظم الأثر. وربّما تغيّرت حياةُ واحد من أولئك بهذه اللمسة الكريمة، فصار كريمًا مع كلّ من يراه، فتحسّن عالمُه بذلك، وعالمُ مَن يخالطهم.
إنّما تغيير العالَم أسهل ممّا نظنّ، ولكنّ الإنسان يُعجز نفسه بأمانيّ خارج حدوده التماسًا للكسل، أو ضعفًا في الأمل.
ويبقى مَن اختار أن يملأ أكثر من مكانه منارةً يهتدي بها العابرون. فانظر أيّهما تكون، وأيّ الطريقَين تسلك.