كثيرًا ما يكون ترتيب الأفكار عملًا شاقًا، حتّى لو كنّا في محادثة ودّية مع أصدقائنا لا يترتّب عليها أيّ خطر. نحاول تنظيم كلامنا فنتلعثم فيه، ونحاول توضيح ما نعنيه فنفيض في الكلام كثيرًا حتّى نصل إلى المعنى الذي نريده.
فما بالُك بالعمل على تأليف كتاب كامل واضح الفكرة، مرتّبًا ترتيبًا منطقيًا، يستسيغه القارئ ويستوعبه؟ إنّه من أشقّ الأعمال.
أدخل دار بيع الكتب وأقلّب بصري بين الرّفوف، وأدرك تمامًا أنّني بإزاء حيوات لا نهائية، وخبرات لن أستطيع، ولو حرصت، تحصيلها كلّها. أقلّب بصري بين الكتب وكأنّني أدير النّظر في شريط تسجيلي لحياة كُتّابها. فهُنا لمحةٌ من حياة العقّاد، وهنا مجلس مع الحكيم، وهنالك رحلة في فكر العميد، وذاك مشهد رآه محفوظ في خياله يومًا .. لكلّ سطر قصّة، ولكلّ قصّة انفعالات اختلجت بصدر صاحبها وآثار تركتها فيه وفيمَن حوله من خاصّته. فاضت في نفوسهم المعاني فجادوا علينا بحفظها لنا.
وهذا الفيضُ من المشاعر والأفكار والخبرات، مطويّ في هذه الصفحات التي أمامي. إنّها هديّة أهداها إليّ مؤلّفها. هديّةٌ أشعر بالفوز حين أشتريها بالمال. لأنّها صفقة رابحة. وأزيد فأنفق من وقتي فيها، ومن انشغال فكري، فتصير كلّما بذلتُ فيها أكثر، كلّما زادت قيمتُها عندي وزاد العائدُ منها عليّ.
وهكذا يجب أن تكون الهديّة. ليس فقط أن تكون شيئًا حصلتُ عليه دون بذل المال فيه، بل ربّما أبذل فيها مالًا وجهدًا ووقتًا وتعبًا، وتزيدُ كلّما زدتُ أنا فيها.