يأخذنا الدكتور مصطفى محمود في رحلة خياليّة إلى جزيرةٍ نائية خالية من البشر إلّا واحدًا. فيها إنسان واحد فقط. هذا الإنسان حرّ تمامًا. يستطيع أن يفعل ما يحلو له.
يمكنه أن يخلع جميع ملابسه ويركض عاريًا. يمكنه أن يسبح في أيّ وقت. يمكنه أن ينام في أيّ وقت. يستطيع أن يعمل أو لا يعمل. لا أحد يحاسبه. لا أحد يراقبه. ليس لديه أيّ مسؤوليّة. وليس عليه أيّ واجبات.
هذه هي الحياة الوحيدة التي يمكن يتمتّع فيها الإنسان بحريّة مطلقة. بلا أيّ قيود. حياة ليس فيها غيره. ولكنّها حياة فارغة من المعنى. إنّها الجحيم!
بمجرّد تخيّل إنسان جديد معه على هذه الجزيرة، ستبدأ بعض القيود بالظهور. لن يمكنه، مثلًا، أن يجلس في نفس المكان الذي يجلس فيه الآخر. كما أنهما سوف تنشأ بينهما علاقة ما بكل تأكيد، تترتّب عليها حقوق وواجبات لكلّ طرف تجاه الآخر. وعلى الرغم من أنّ حريّة ذلك الإنسان الأوّل أصبحت أضيق مجالًا، إلّا أنّه سيختار هذه الحدود على العيش وحده تمامًا.
ثمّ عمّم هذا المثال لتجد مجتمعًا كاملًا مليئًا بالبشر. كلّ واحد يريد أن يصل إلى عمله، فبالتالي علينا تنظيم حركة المرور وتخصيص قواعد معيّنة للسير في الشارع هدفها تسهيل وصول كلّ منّا إلى عمله. صحيح أنّني سأصل أسرع لو لم يكن أحد معي في الشارع، لكنني لو لم يكن معي أحد لما كان هناك عمل أذهب إليه أصلًا!
لو لم يكن معنا بشر آخرين لما استطعنا بناء الطائرات والصواريخ ولا الوصول إلى القمر ولا حتّى حياكة الملابس وتصميمها بشكل أنيق. ما كنّا لنستطيع ركوب سيّارة ولا بناء حضارة.
وجود بشر آخرين معنا على سطح الأرض يضيف لحياتنا بشكل إجماليّ يستحقّ التضحية ببعض من حرّيّاتنا لأجله.
هذا من ناحية عامّة. ونفس الكلام ينطبق على الناحية الخاصّة.
الشخص الأعزبُ أكثر حرّيّةً من المتزوّج. ومن لم ينجب أكثر حرّيّة من صاحب الذرّيّة. ومن ليس له إخوة يشاركونه مسكنه أكثر حرّيّة من آخر في عائلة كبيرة وله إخوة كثيرون. وهكذا.
لكن، لوجود الزوج قيمة. ولوجود الزوجة قيمة. ولوجود الأولاد قيمة. ولوجود الإخوة قيمة. كلُّ قيد يضيف إلى حياتنا قيمة.
وكثير من المنادين بالحريّة الآن لا يدركون هذا البُعد من المسألة. يركّزون على القيد، وينسون القيمة التي لم تكن لتوجد لولا هذا القيد.
بل إنّ هذه القيود تزيدُ من حُرّيّتنا، إذا نظرنا إلى قدراتنا الخارقة في وجودها وقدرتنا الضئيلة جدًا من دونها.