يأتي الكاتبُ برواية ذكيّة اجتماعيّة تثير قضيّةً واقعيّة وتعالجها بشكل دراميّ بديع، ويتحمّس لها مُخرِجٌ مخلص ومُنتجٌ مغامر، ويظهر فيلمٌ فنّيٌ بديع، ولا يحضره سوى العشرات من الجمهور.
وفي عالمٍ موازٍ يأتي كاتبٌ تافه الشأن برواية مبتذلة لا تعالج قضيّة ولا تناقش فكرة، يتحمّس لها مُنتج يبحث عن الربح السريع فيجد لها مُخرجًا وممثّلين ويظهر فيلم هابط، لا فنّ فيه، وتحتشد الناس بالألوف لمشاهدة الراقصة، وتنتشر الأغنية التي لا غناء فيها بينهم وبين سائقي “الميكروباص” فتتردّد على أذهان الأطفال والشباب ليل نهار فيتضاعف أثرها عليهم.
حضرتُ سهرةً غنائية متواضعة لفرقة شابّة ما زالت تتحسّس طريقها نحو البزوغ والنضج الفنّيّ، وكان الحاضرون بضع عشرات من الناس. فغنّت الفرقة وعزفت والجمهور يتفاعل بنوع من البرود، فلا شيء لافت وليست الأغاني بديعةً بما يكفي. وكنتُ أصفّق مرةً ومرّات لا أصفّق لأنّ الكلمات أو اللحن لم يعجبني. إلى أن قالت في أغنية لها كلمةً سوقية تعني “براز” بالعامّيّة المصرية، فتهلّل الجمهور وتحمّس وصفّق! وتكررت الكلمة عدة مرات في الأغنية، وصفّق الجمهور بحرارة شديدةبعد انتهائها وكأنهم يستمعون إلى فقرة بديعة لأم كلثوم. وشعرتُ أنهم كادوا أن يقولوا لها “تاني يا ستّ!” كما اعتاد جمهور أم كلثوم حين تبدع.
لم أصفّق. وكدتُ أخرج من مكان الحفل لولا أنّي لم أرد إفساد السهرة على رفاقي.
وهنا ملحوظتان، واحدة للفنّان، وواحدة للجمهور:
الأولى أنّ الفنّان الحقّ لا يبدع فنًّا من أجل النّاس. لا يهمّه عدد المعجبين بفنّه. لا بدّ أنّ هناك أشخاصًا ما سيعجبهم العمل الفنّي، ولكنّه لا يكترث لعددهم. سيبدع حتّى لو لن يرى عمله سوى شخص واحد. إنّه يبدع ليصنع فارقًا، لا ليتلقّى المديح. تجده صبورًا جدًا. لا يتعجّل الشهرة، المهمّ أن يستمرّ في فنّه. فمن كان غير ذلك، فهو تاجر، لا فنّان.
والثانيةُ أنّ الجمهور ذا الوعي العالي لا يشجّع ما هبط من هذه التجارة التي تسمّى فنًّا. لا يسمع تلك الأغنية، لا يشاهد ذلك الفيلم، لا يردّد الكلمات التافهة التي يسمّيها صاحبها شِعرًا، لا يضحك على النكتة التي تتنمّر على فئة معيّنة من النّاس، لا يصفّق لاستخدام الكلمات البذيئة على المسرح. الجمهور الواعي لا يشجّع السافل من العروض، مهما كان المعروض.
المفاجأةُ غير المفاجئة أننا كلّنا فنّانون، وكلّنا جماهير. كلٌّ منّا فنان في جزء ما من حياته. أو يمكن لكلّ منّا أن يختار أن يكون فنّانًا، إذا أراد. لا بديل عن الفنّ سوى التقهقهر، والتقليد واتّباع الرائج من سفاسف الأمور. لا أعذار. لديك الاختيار. وكلّنا، في نفس الوقت، جمهور في النواحي الأخرى من حياتنا، وهي الأكثر. لا أعذار، لديك الاختيار.
أنت تصنع الفنّ، بنفسك، أو بتشجيعك ومتابعتك.
أنت تصنع العبث، بنفسك، أو بتشجيعك ومتابعتك.
فانظر ماذا تصنع.