أوّل ما لفتَ نظري عندما مشينا في شوارع الأقصر متجّهين إلى الباخرة التي سنقضي فيها رحلتنا هو مظهر الفقر العام في البلدة. الشوارع ضيّقة، والممهّد منها قليل جدًا. أغلبُها شوارع تُرابية.
ملابسُ أهل البلدة أقلّ من المتوسّطة. يشتغل معظمهم، بالطبع، في أعمال تعتمد على السياحة والسائحين؛ فهناك الأعمال اليدوية، وهي السلعة الأساسية التي يبيعها كلّ المحلّات فيما عدا محلّات الطعام.
مَن لا يشتغل منهم في السّلع اليدوية، أو الإرشاد، يسوق حَنطورًا. الحناطير منتشرة في كلّ مكان. لا أكاد أمشي خطوةً خارج الباخرة حتّى أجد مَن يعرض عليّ الركوب معه ليوصلني إلى السوق، أو المعبد، ويعرض علي أن ينتظرني هناك ويعيدني، إن شئت. فأشكره راجيًا أن يتركني وشأني، فأنا، على أيّ حال، أرغب في المشي لمشاهدة الأماكن المختلفة. ولكن بمجرّد تخلّصي منه بصعوبة شديدة أجد آحرَ يعرض عليّ نفس الرّحلة بنصف السعر، ثمّ آخر يعرضها عليّ بعشرين جنيهًا، ثمّ عشرة!
وفي السّوق، لا يختلف الأمر كثيرًا عن ذلك. يتلقّفني التّجّار ويبذلون قصارَى جهدهم في بيع أيّ شيء لي. أسعار السلع رخيصة جدًا فلا يخطر في بالي أن أناقش السعر. حقيبة يدوية صغيرة بخمسة جنيهات، وميدالية يُكتب عليها اسمي بحروف هيلوغريفية وإنجليزية بعشرة جنيهات، وقبّعة يدويّة الصنع بخمسين جنيهاً. إلّا أنّي بعد عدّة محلّات أجد من يعرض عليّ الثلاث حقائب بعشرة جنيهات، والميدالية بخمسة جنيهات!
لا أعرف ما هو الانطبع الذي يجب أن يستقرّ في ذهني عن أهل الأقصر. لكنّه ليس انطباعًا جيّدًا أبدًا.
وممّا أزعجني أيضًا عدم اهتمام أهل البلدة بنظافتها؛ وهو شيء شائع في القاهرة، وأستنكره كذلك، ولكنّه أشدّ وقعًا على نفسي في مدينة سياحيّة. الخيول تلطّخ الشارع بمخلّفاتها وعليك أن تنتبه جيّدًا قبل أن تخطوَ خطوتك التالية حتّى لا تغمس حذاءك فيها.
ولا يقتصر الإهمال على أهل المدينة فحسب. بل الإهمال أشدّ من جانب الحكومة. تأمين المعابد الأثريّة هزيل جدًا، ولا يبدو أنّ نظافة المكان تشغل تفكيرهم، ولا يبذلون أيّ جهد ملحوظ في الحفاظ على الشكل الأثريّ للمكان. فأجدُ مثلًا صناديق القمامة المعدنية منتشرة في أرجاء المعبد، تشوّه شكله، وكاميرات المراقبة تخترق الحجارة الأثريّة بهيكلها المعدني وعينها الكبيرة، وأسلاك الكهرباء قد تتدلّى من على سور أثريّ أو عامود! واللافتات الإرشادية -إن وُجدت- شكلها رديء، ومكتوبة بخطٍّ رديء، وموضوعة في “جردل” مليء بالأسمنت لتثبيتها. والحواجز التي تشير إلى عدم التخطّي ليست أحسن حالًا من اللافتات.
ولديّ شعور لا أستطيع التخلّص منه أنّ المرشدين السياحيّين لا يعرفون عن المعابد ما يجدر بهم أن يعرفوه. ويقولون لنا معلومات سطحيّة. وإذا سألتُ عن شيءٍ ما، قد يحيد عن السؤال أحيانًا ويتجنّب الإجابة. غيرَ أنَّ المرشد السياحيّ يجب أن يكون جهورَ الصوت ويعرف لغاتٍ مختلفة، وهو ما لم يتحقّق في أكثر الزيارات التي قمنا بها. وتكرّر في أكثر من رحلة أنّ بين الزائرين من لا يفهم سوى الإسبانية أو الإنجليزية، ولم يكن المرشد يتحدّث أيًا من اللغتَين.
هناك مرشدٌ واحد ظننتُ فيه أنّه على قدر كبير من المعرفة ولكن فرحتي به لم تكتمل؛ إذ كان يُشعرني بأنّ عملَه ثقيلٌ جدًا على قلبه. متعجّلٌ دائمًا. وإذا تأخّر أحدُنا في التقاط صورة، أو طلبَ طلَبًا مشروعًا جدًّا، كأن يزور منطقة معيّنة في المعبد، أو يُعادُ شرحُ شيءٍ فاتَه، يظلّ يتبرّم منه. ولا يفوتني هنا أن أذكرَ أنّه تأخّرَ علينا يومًا بعدما نبّه علينا بشدّة في الليلة السابقة أهمّيّة الالتزام بالموعد، وقد اضطررنا للاستيقاظ في الخامسة والنصف فجرًا حتّى لا نتأخّر. ولم يعتذر حين كان داخلًا إلى البوفيه في السادسة والنصف ونحن ننصرف منه، بل قال: وجبةُ الإفطار هي الوجبةُ الوحيدة التي لا يمكن فيها الالتزام بمواعيد! وهي جملة سخيفة لا يصحّ أن تخرج ممّن تأخّر عن موعده، ولكنّها لم تكن الشيء الوحيد السخيف الذي قاله هذا المرشد.
أمّا عن معابد الأقصر، فهي آيةٌ من الجمال والإبداع والفنّ. والمفارقة العجيبة أنّ بقاء هذه المعابد حتّى اليوم، وعمرها آلاف السنين، كان نتيجة إتقان لا نظير له في بنائها ورعايتها من قبَل الفراعنة، ويكون حالُ من يرتزقون بسبب هذه الأعمال المتقنة هذا الحالُ من الإهمال والفهلوة الفارغة.
وإذا عرفتَ كلَّ ذلك، وعرفتَ أنّ كلَّ مَن على متن هذه الرحلة سعداء ومبهورون بما شاهدوه، عرفتَ عظمةَ المكان حقًّا. عظمةٌ تجعلني، رغم كلِّ هذه المساوئ التي يسهلُ تجنُّبها، سعيدًا لا أزال. ولا يخطر ببالي لحظة أن وقتي قد ضاع سُدى. بل إنّي أظنّ أنّ كلّ مَن لم يزر الأقصر لم يعرف مصر بعد، أو على الأقلّ مصر القديمة.
وإنّما بعثني على كتابة هذه الخاطرة شعور عميق بالأسف؛ إذ لا أستطيع الكفَّ عن المقارنة بين حالَي المصريّ القديم والمعاصر.