لطالما حلُمتُ أن أكون كاتبًا، وأن أنشر كتابًا مطبوعًا يحمل اسمي على غلافه.
أذكرُ أنّي جلستُ يومًا لأكتب المشهد الأوّل من الرواية التي لم أكن أعرف عنها شيئًا بعد، فكتبت ستّة أسطر وشعرتُ بشيء من الرّضا بهذا الإنجاز، وقرّرتُ أن أعود في الغد، لأكمل. كان ذلك منذ سنوات، والأسطر الستّة كما هي حتّى الآن لم تزد حرفًا واحدًا.
مشروع تأليف كتاب كامل، يبدو من بعيد كجبل ضخم، وكلّما اقتربت منه وسعيت إليه ازداد هذا الجبل ضخامةً. ويدركُ الكاتبُ حين يشرع في هذا العمل الخطير، أنّه ما وصل إلّا إلى سفح هذا الجبل. فينظر لأعلى بعينٍ مرتجفة، ثمّ ينتقل الخوف من عينِه –التي ترى كيانًا ضخمًا لا يعرف كيف يتسلّقه إلى قمّته– إلى قلبه وعقله، ثمّ يتخلّى عن هذا الحلم البعيد، ويعود أدراجه مرّةً أخرى.
كانت مجرّد “لحظة إلهام” عابرة، لا معنى لها. من أنا لأكتب كتابًا؟
ثمّ، بعد ذلك بشهور، خطر لي أن أدوّن خواطري ها هنا. خاطرة واحدة يوميًا تعني النّجاح. مهما كانت صغيرة الحجم، قليلة الأسطر، ركيكة البَيان. وقرّرتُ أن أدوّن هذه الخواطر إن كنتُ راضيًا عنها أو غير راض، وإن كنت في مزاج يسمح بذلك أو لا يسمح، وإن قرأ أحد هذه السطور أو لم يقرأ، فأنا أكتب لنفسي أوّلًا، ثمّ يسعدني بعد ذلك أن تُقرأ كلماتي بالتأكيد .. أي أنّني ألزمت نفسي بالنّشر كلّ يوم، مهما كانت الظروف، ومهما كانت كلماتي تبدو لي ضعيفة الأسلوب أو المعنى. الشّرطُ الوحيد أن أنشر شيئًا نافعًا، وإن قلّ نفعُه.
وهكذا تحوّلت الكتابةُ من تسلّق أعلى قمّةٍ في العالَم، إلى خطوة صغيرة كما يصعد الماشي على رصيف الطريق.
دعونا نلقي نظرةً على بعض الأرقام:
خاطرة واحدة كلّ يوم بمتوسّط ١١٤ كلمة، وربّما عشر دقائق أو ربع ساعة في المتوسّط لكتابة هذه السطور تساوي مع مرور ٧٠٠ يوم ٨٣ ألف كلمة. أي ما يعادل تقريبًا ثلاثة كتب من الحجم المعتاد في هذه الأيّام.
من الحقّ أنّني لم أكتب كتابًا واحدًا، ولكنّني كتبت من حيث عدد الكلمات ما يكفي ثلاثة كتب. ولا شكّ عندي أنّ ما أكتبه أقلّ بكثير من كثير من هذه الكتب المطبوعة، ولكن لا شكّ عندي كذلك أنّ ما أكتبه أفضل بكثير من كثير من هذه الكتب المطبوعة كذلك.
لست هنا في معرض التفاخر بما أكتب، وإنّما أحاول بين الحين والآخر أن أنظر إلى ما مضى، وأن أتعلّم درسًا من ذلك. والدرسُ الأوضح هنا هو أنّ العملَ، مهما صغر، كبير مع المداومة والتكرار.
ودرسٌ آخر هو أنّني الآن لست في قاع الجبل كما كنت سابقًا. فقد ارتقيت درجات في ذلك حتّى يبدو لي الجبل الآن تلًّا. ليس قريبًا جدًا، ولكنّه لم يعد حلمًا بعيدًا كما كان قبل ٧٠٠ خاطرة و٨٣ ألف كلمة. مهارةُ الكتابة تطوّرت، وأفكاري تزداد وضوحًا يومًا بعد يوم، ولديّ كمًّا لا بأس به من المحتوى الذي، مع التنقيح والترتيب والتنسيق، قد يصدر عنه كتابٌ لا بأس به.
عسى أن تمرّ سنوات أُخَر، وأنظر إلى الوراء، فأرى ٧٠٠٠ خاطرة، و٨٣٠ ألف كلمة، وعشرين كتابًا .. وستكون بداية كلّ ذلك قرار اتُخذ قبل ٧٠٠ يوم، بأن أكتب كلّ يوم خاطرة، مهما قلّ محتواها، ومهما بدا لي غيرَ جيّد، ولو لم يقرأه أحد!