منذ يومين، كتبت عن النصيحة التي قدّمها لي رجلٌ جلس بجانبي لمدّة خمس دقائق. وكتبتُ عن تضييع فرصٍ كثيرة تظهر لنا في شكل نصائح من المقرّبين أو العابرين.
انتهز أبي هذه الفرصة ليناقشني في نصيحة قدّمها لي ولم أنفّذها بعد. وفتح هذا باب النقاش لفكرة “المعيار” الذي نقوم على أساسه باتّباع نصيحة ما على الفور، أو تأجيلها، أو التغاضي عنها تمامًا.
وكما أدعو إلى اعتبار النصائح وتنفيذها وأخذها مأخذ الجدّ، وكما أرى أنّ تجاهلها قد يضيّع من أيدينا فرصةً للتغيير، أرى أيضًا أنّه من المستحيل أن ننفّذ كلّ النصائح المقدّمة لنا. وأنّه لا بد لنا من الاختيار.
ونعود إلى السؤال: ما هو المعيار؟
بالنسبة إلى أبي، المعيار هو احترامك للشخص الذي ينصحك وتقديرك أنه يحبك ويريد مصلحتك وأنه مخلص لك، حتّى لو لم تكن النصيحة متماشيةً مع هواه. فبما أنّ من قدّم لك النصيحة مخلص وأنت تحترم رأيه، فلم لا تقوم بتنفيذها على الفور؟
وأقول: أتّفق مع هذا الكلام، ولكنّي أظنّ أنّ الأمر أكثر تركيبًا. وأظنّ أنّ طبيعة شخصيّة المتلقّي تلعب دورًا كبيرًا. وفقًا لجريتشن روبن، هناك نمط من الشخصيّات متسائل دومًا Questioner. هذا الشخص لا يفعل شيئًا إلا إذا اقتنع به منطقيًّا. فإذا قلت له: افعل كذا، يسألك: ما الفائدة؟ وهكذا حتى يقتنع. وبغير هذا الاقتناع، لن يقوم به. وعلى النقيض منه، هناك الشخص المطيع Obliger. وهو يحاول جاهدًا تلبية توقّعات الغير، حتى لو لم يقتنع بها. مجرّد أن تطلب وتتوقّع منه تنفيذ ما تريد كافٍ بالنسبة إليه.
أما أنا، فأكاد أجزم أنّني من النوع المتسائل. وأظنّ أنّ أبي من نفس النّوع أيضًا. وقد أثّر والدي كثيرًا في تكوين رؤيتي عن الحياة، وعن حياتي، وفي طريقة استيعابي للأمور. ودائمًا ما أرى تأثير كلامه معي في طريقة تفكيري، على الرّغم من أنّه قد لا يشعر بهذا.
وهناك عاملٌ آخر أرى أنّه يجب أن يُضاف إلى المُعادلة، وربّما يكون هو المفتاح النهائي الذي نستطيع أن نضمّ إليه كلّ ما سبق من احترام النّاصح وقدره عند مستقبلِ النصيحة، وطبيعة شخصيّة المتلقّي، وهذا الأمر هو ما سمّاه العقّاد في كتابه عبقريّة عمر: الاستعداد.
قال العقّاد: بل سمع الاقتراح ولبّاه لأنّه كان قبل ذلك مستعدًّا للتحوّل ماضيًا في طريقه. ولو سمعه مائة معه لم يكونوا مستعدّين مثله لما عملوا به ولا التفتوا إليه.
لا ينقصُك شيئٌ، مع الاستعداد، سوى الشرارة.
ولكن بدون الاستعداد، ألف شرارةٍ لن تعمل شيئًا.
ونعود إلى سؤالنا: ما المعيار؟ والإجابة، في كلمةٍ واحدة، الاستعداد.
وعاملٌ رابع يدخل في الحكم على النصيحة هو الموازنة بين الثمن الذي ستدفعه إذا قررت تنفيذها، والثمن الذي ستدفعه إذا لم تنفّذها. فإن كان ثمن التنفيذ زهيدًا، مثل أن تقضي بعض الوقت في القراءة، أو أن تستمع إلى محاضرة في وقت فراغك، فلا شكّ أنّ الأمر يستحقّ المحاولة؛ فربّما تغيّر هذه المحاضرة حياتك أو الكتاب.
أما إذا كان الثمن باهظًا، مثل أن تغيّر مسار حياتك بالكلّيّة، أو أن تترك عملك، أو أن تتزوّج فلانة، فهذا ثمن يستحق التروّي والدراسة قبل أن تقرّر القيام به. وأخيرًا، إذا لم تكن النصيحة مرتبطة بوقت محدود، وتستطيع تنفيذها في وقت لاحق دون أن تخسر شيئًا، فلا داعي للعَجَلة.
وكنتُ أودّ أن أكتب أيضًا عن مسؤوليّة الناصح، ومسؤوليّة متلقّي النصيحة، وحدود دور كلّ منهما. وربّما أعود للكتابة عنها في يومٍ جديد.
سيفيدني جدًا ويسعدني أن تشاركني، بعد أن وصلت لنهاية المقال، بمعيارك أنت في اختيار النصيحة التي تنفّذها، إذا أردت.